في البيت النبوي الكريم ذلك الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه وضعت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام وليدتها المباركة وأجرى أمير المؤمنين علي عليه السلام على كريمته مسحة الرضوان فأذّن في أذنها اليمنى وأقام في أذنها اليسرى واختار لها جدها خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله اسم زينب بوحي من السماء في السنة الخامسة للهجرة فيما يظهر من قرائن الروايات و تاريخ سيرتها المضيئة .
نشأت الحوراء زينب عليها السلام في بيت النبوة ومهبط الوحي و التنزيل وغذّتها أمها سيدة نساء العالمين محاسن الأخلاق و تلاوات القرآن و نور الرسالة و أفرغت عليها أشعة من روحها الصافية حتى صارت مثالاً كاملاً عن أمها فإذا هي في المنبت الطيب المبارك الصديقة الصغرى يحوطها الجلال بين أخويها الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة , فكان الرواة في عهد أبيها علي عليه السلام إذا نسبوا إليه حديثاً قالوا :
حدّثنا أبو الحسنين أو حدّثنا أبو زينب اشادة بفضلها و عظيم منزلتها عند المسلمين.
كذلك ترعرعت حفيدة الرسول ( ص) في بيت الوحي و مركز العلم و الفضل فنهلت من نمير علوم جدها و أبيها و أخويها فكانت من أجل العالمات و من أكثرهن احاطة بفقه الشريعة و أصول الدين و جوهرة الهداية من القرآن .
وقد تحملت مسؤولية البيت النبوي بعد وفاة جدها و أمها منذ نعومة أظفارها فشغلت مقاماً من مقام الأم فيه لتغدو بصبرها على أحزانها الأولى صورة ناصعة لسجايا الأئمة الأطهار ( ع ) .
وما يدل على فريد فضلها أنها كانت تنوب عن أخيها الامام الحسين ( ع ) في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية , وكان الامام زين العابدين و عبد الله بن جعفر و فاطمة بنت الحسين ( ع ) يروون عنها لسعة معارفها و حفظها للحديث الشريف , ولما كانت في الكوفة أيام أبيها كان لها مجلس علمي تزدحم عليه سيدات عصرها , فكن يأخذن منها فقه الأسرة و التربية و آداب الاجتماع ويكفيها فضلاً أن إبن عباس حبر الأمة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي إلى حلها .
كما روى عنها كوكبة من الأخبار وكان يعتز بالرواية عنها ويقول :
حدثتنا عقيلتنا يقصد زينب بنت علي ( ع ) وقد روى عنها الخطاب التاريخي الذي ألقته أمها فاطمة في مسجد جدّها وقد نابت عن السّجاد في أيام مرضه فكانت تجيب عما يرد عليه من أسئلة الأحكام حتى قال في حقها ( ع ) : ” إنها عالمة غير معلمة ”
وعلى نهج القرآن و السنة الطاهرة كانت زينب ( ع ) ألمح خطيبة في تاريخ الاسلام فقد هزّت وجدان الأمة و ضميرها وأيقظت وعي الرأي العام للاحتجاج على عسف الظالمين فيما حفظه لنا التاريخ من بلاغتها الخالدة في الكوفة و دمشق و المدينة على مرأى و مسمع الأمة المثكولة بأعز ما في عقيدتها من وحدة و توحيد .
وازدان اسمها بألقابها التي تنم عن صفاتها الكريمة و خصالها الشريفة فهي عقيلة بني هاشم و هي العالمة وهي عابدة آل علي و هي الكاملة الفاضلة و هي صاحبة الشورى من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء .
واجهت زينب ( ع ) فاجعة استشهاد أبيها ( ع ) على يد المارقين و الناكثين لضرب الاسلام في أعز مواقعه فاستقرت مع أخيها الحسين مرابطة إلى جانب أخيها الحسن إماماً وخليفة شرعياً للمسلمين بعد أبيه علي ( ع ) فأبصرت بعينيها أيام الشقاق و تحريض الناس على العداوة لأهل البيت ( ع ) باستفزاز غرائزهم القبيلة و الجاهلية .
وشهدت بالحزن و الشجن اختلاف الأمة وانفصام عروتها و رأت أخاها الحسن يؤثر الحكمة لحقن دماء المسلمين غير أن الفتنة و الاحقاد الدفينة ضد علي و آل بيته الأطهار انتهت الى اغتيال الامام الحسن ( ع ) شهيداً مظلموماً فعمّت الفوضى في الأرجاء و استبدّ الظالمون بتأجيج الفتن و البدع التي طمست معالم الاسلام القرآني الحنيف و انتشر البهتان في أواسط الأمة و تفشت الروايات و الاقاصيص الكاذبة واستشرى ذلك بين الفقهاء و القضاة والولاة ووقفت العقيلة زينب ( ع ) ازاء كثرة الوضاعين باسم جدها تنادي المسلمين بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله وتذكرهم بتضحيات أخيها الحسن في سبيل حقن الدماء .
وغضب الامام الحسن ( ع ) كأشد ما يكون الغضب ازاء تلك الاحداث المؤلمة التي لاحد لفظاعتها في تاريخ العرب و الاسلام .
و في تلك الليالي الظلماء تقبض زينب على جمرة الحق وصدىً من كلمات أخيها الحسين تملأ أسماع المسلمين :
” ألا ترون إلى الحق لايعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه “.
وعلى صرخة هذا الحق يتبدأ فصل جديد من عمر زينب ( ع ) هو فصل الدعوة إلى الاصلاح على طريق كربلاء .
ولا يذكر شهداء كربلاء إلّا و يذكر من شجونهم أنباء زينب عن زوجها عبد الله بن جعفر رضي الله عنه محمد وأخوه عون فقد خرجا مع امهما الطاهرة زينب ( ع ) و خالهما الامام الحسين ( ع ) فجاهدا بين يديه يوم عاشوراء حتى كتب الله لهما الشهادة مع كوكبة من أصحاب الامام الحسين ( ع ) وأنصاره و أهل بيته الذين تفانوا في سبيل الحق و العقيدة و رفضوا الاستسلام لظلم الباطل فكانت كربلاء بكل بطولاتها ومآسيها وكان الحسين بكل إبائه وشموخه ورسالته و نهضته و كانت زينب ( ع ) بكل آلام صبرها و بكل آمال فصاحتها تناول لايقاظ عقل الامة و ضميرها نحو توحيد كلمتها على كلمة التوحيد كما لو أن زينب ( ع ) التي ولدت صبيحة اقتلاع باب الشرك و الظلم في خيبر كانت منذورة لرسالة الدفاع عن جوهر الامانة الالهية في الحق و الخير و الاستقامة على معاني الفضيلة و الاخلاق .
فلم يسجل عليها التاريخ أنها صرخت في ليل القهر و العذاب صرخة ويل ولم يأخذ عليها البغي الظالم أنها تأوهت في حلك السبي آهة ذل أو هوان لقد تقدمت بخطى الواثقة من نصر الله و برزت بالايمان كله وشقّت طريقها بين السيوف و أسنّة الرماح نحو رأس أخيها الإمام الحسين ( ع ) .
فملأت كفها من دم الجسد الطاهر لتلقي في سمع التاريخ كله ضراعتها الشهيرة :
اللهم تقبّل منا هذا القربان .